مضى على وجودي في هذا المكان الآمن أسبوعين ولأول مرة أتذوق طعم كلمة “الغربة”؛  

.لأول مرة في حياتي لا أعرف التعامل مع حزني وانكساري 

في السودان، كنت مغتربا بالاسم فقط.  مضى على وجودي هناك أكثر من سبع سنين بقليل لكن في الواقع يعرف أهلي وأصدقائي من أول يوم وصلت فيه أنني كنت سعيدا ومرتاحا رغم كل الصعوبات والتحديات اليومية

.وصلت السودان يوم ١٩ كانون الثاني/يناير ٢٠١٦.  لا أعرف إنسانا ولا أعرف أين سأنام

سبحان الله، بدعوات أمي وأهلي وأصحابي نمت من أول يوم في بيت استضافني.  وجدت في اليوم التالي عملا وبعد أسبوعين وجدت عملا أفضل. سافرت داخل السودان وسكنت في مدينتي كسلا حتى شهر مارس الماضي. بعدها عدت إلى الخرطوم بحثا عن فرص عمل أفضل

في هذه الفترة المليئة بالأحداث تعلمت الكثير من الدروس واستمتعتُ بكل التجارب التي واجهتني بروح قوية ونَفَسٍ طويل؛ استمتعت بكل فرصة وكل جمالية موجودة؛ خلقت فرص عمل من لا شيء وأصبحت شخصًا مقاومًا لتحديات الحياة عارفا بتفاصيلها محاربًا في ساحاتها، محبًّا للناس وللأصدقاء ولكل من شاركته همًّا أو موقفًا صادقًا بيننا.

في هذه الفترة من حياتي، تعلمت واشتغلت وغامرت إلى أبعد الحدود؛ أثمن ما خرجت به من تجربتي في السودان – هذا الكنز هو تجربتي الإنسانية مع كل شخص التقيته وكل صاحب وقفنا معا في مواجهة محن كانت تتوالى واحدة تلو الأخرى. كنا نخرج منها اقوى دائما.  لكل أهلي الذين فتحوا لي أبواب بيتهم وشاركوني لقمة عيشهم أقول: الله يحميكم ويحفظكم في هذه الفتنة والكرب العظيم

كان خروجي من الخرطوم والسودان كمن يقتلع شجرة ضاربة جذورها في ترابها وأعماق أرضها.  وقت مغادرة الخرطوم كان علىّ أن قرر ما سآخذ وماذا سأترك. كنت أعرف أن مصير أي ما سأتركه ورائي النهب. لكن لم يكن أمامي من خيار سوى الرحيل؛ قررت ترك كل مقتنياتي وأهمها جهاز الكومبيوتر الذي كان محجوزا في مكتب يقع وسط منطقة النزاع الدامي

قابلنا دورية الدعم السريع لدى خروجنا.  أمرتنا بالتوقف. كنت مع ثلاثة من أعز أصحابي في سيارة. لحظة وحدة توقف فيها الزمن. فتشت السيارة. بدأ عشر محاربين يبدوا أنهم لم يناموا منذ أيام باستجوابنا بشكل استفزازي وكأنهم يتسلون بنا. سمحوا لنا بعد حين بمواصلة رحلتنا الطويلة إلى القضارف.  قررت عندها أن أترك السودان وأعبر إلى إثيوبيا تحسباً لإغلاق الحدود وتطور الأزمة لتصبح أزمة اقتصادية واجتماعية أكب.

بقيت عالقا في الحدود الإثيوبية على المعبر الحدودي القلابات. كانت تجربة لا تنسى. فقدت بين يوم وليلة آخر مقتنياتي التي كانت ستبقيني على اتصال بالعالم الخارجي.. كنت منهكا. غلبني النوم وصحوت لأجد أن المبلغ القليل من المال الذي كان بحوزتي وهاتفي قد سرق في زحمة المعبر  

بعد ١٢ يوم على الحدود، وبمساعدة لا أستطيع سرد تفاصيلها ولن أنساها أو أنسى كل من أسهم في نجاحها، كتب لي الخلاص ثانية. وصفها صاحبي الذي لا يجيد العربية أنها معجزة “”miracle. وصلني ما كنت أحتاج إليه لسد الرمق من أكل وشراب وهاتف محلي مؤقت لتأمين بقائي على اتصال بالعالم، والأهم وهو التنسيق مع جهات رسمية ودولية، انتهت بالعبور إلى إثيوبيا  

وصلت أديس أبابا

وبعد يومين في أديس أبابا، وجدت نفسي في مقعد طائرة متوجهة إلى أمريكا اللاتينية لأجد بيتا وإنسانا عزيزا بانتظاري في صالة استقبال المسافرين

وها انا بعد اسبوعين هنا مازلت أحاول أن أتعافى من كل هذا وذاك

……يتبع

:لم أنس الابتسامة. أثناء إحدى المقابلات التي كنت أشرح فيها وضعي في أديس. بادرني المنسق الطبي وهو يضحك ضحكة هستيرية قائلا

“استراتيجيتك في النجاة من الحروب مميزة؛

Share This
Share This